الجنائية الدولية- مذكرات اعتقال مرتقبة تهزّ إسرائيل وتحاصر قادتها.

المؤلف: د. محمود الحنفي11.01.2025
الجنائية الدولية- مذكرات اعتقال مرتقبة تهزّ إسرائيل وتحاصر قادتها.

تداولت وسائل الإعلام على نطاق واسع أن المحكمة الجنائية الدولية قد تصدر قريبًا أوامر توقيف بحق مسؤولين إسرائيليين كبار، بمن فيهم رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع يوآف غالانت، ورئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، وذلك فيما يتعلق بالعمليات العسكرية التي شنتها إسرائيل في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول من العام الفائت. ومن المرجح صدور هذه الأوامر في غضون الأيام القليلة المقبلة. وإذا ما تأكد ذلك، فسيشكل هذا الحدث منعطفًا هامًا وتاريخيًا، وربما يكون الأهم على الإطلاق منذ تأسيس دولة إسرائيل، التي لطالما اعتُبرت فوق المساءلة ويتمتع قادتها بحصانة من الملاحقة القضائية.

وفي أعقاب انتشار هذه الأنباء، أفادت وسائل إعلام إسرائيلية بانعقاد اجتماع عاجل وغير معلن ضم نتنياهو ووزير العدل ووزير الشؤون الاستراتيجية، بالإضافة إلى خبراء في القانون الدولي، للتباحث بشأن التداعيات المحتملة لهذا القرار. وذكرت التقارير أيضًا أن نتنياهو ناشد ألمانيا وفرنسا التدخل بشكل فوري للضغط على المحكمة الجنائية الدولية لعرقلة إصدار هذه المذكرات. ومما لا شك فيه أن صدور هذه المذكرات سيمثل إدانة أخلاقية قوية للمشمولين بها.

تجدر الإشارة إلى أن الولاية القضائية للمحكمة الجنائية الدولية على الأراضي الفلسطينية تعود إلى عام 2014. وقبل حوالي خمسة أشهر، قام المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، بزيارة إلى معبر رفح الحدودي.

وقد واجهت المحكمة الجنائية الدولية عمومًا، والمدعي العام على وجه الخصوص، انتقادات جمة بسبب البطء في فتح تحقيقات فعالة وجدية، وكذلك لعدم إصدار مذكرات اعتقال بحق مسؤولين متهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة، على الرغم من وجود معلومات وأدلة موثوقة (بما في ذلك تصريحات وممارسات فعلية). ويقارن ذلك بالسرعة التي تعاملت بها المحكمة مع ملف الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وإصدار مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مارس/آذار 2023، وكذلك ملف السودان وإصدار مذكرة اعتقال بحق الرئيس السوداني السابق عمر البشير في مارس/آذار 2009.

إذا صدرت مذكرات اعتقال بحق قادة إسرائيليين، فسيكون ذلك أهم حدث على الإطلاق منذ قيام دولة إسرائيل، التي لطالما وُصفت بأنها دولة فوق القانون، وأن قادتها يتمتعون بحصانة ضد أي ملاحقة قضائية.

هناك العديد من الشكوك التي تحوم حول المحكمة الجنائية الدولية، والقضايا التي تناولتها (بتركيزها الجغرافي على أفريقيا أو دول العالم الثالث واستثناء قادة الدول الغربية) تزيد من هذه الشكوك. ويتعين على المحكمة اليوم أن تثبت للرأي العام العالمي أنها هيئة قضائية ذات مصداقية وجادة ومهنية.

تعتبر المحكمة الجنائية الدولية، التي بدأت عملها في عام 2002، أداة قانونية هامة قادرة على محاسبة الأفراد الذين ارتكبوا جرائم دولية خطيرة. ومع ذلك، فإن الإرادة الدولية التي أنشأت هذه المحكمة لم تتحقق بعد لتحقيق العدالة المنشودة. وتعتمد فعاليتها بشكل كبير على تعاون ودعم الدول الأطراف في نظام روما الأساسي لعام 1998.

كما أن الموضوعية والحيادية والشفافية – وهي الصفات التي يجب أن تتحلى بها المحكمة والتي تؤدي إلى كسب ثقة العالم، مما يعزز مصداقيتها ومكانتها كهيئة قضائية دولية تؤكد على أن لا أحد فوق القانون بغض النظر عن جنسيته أو منصبه السياسي – لا تزال غير متوفرة بشكل كامل.

ما سبب القلق الإسرائيلي؟

عقد نتنياهو اجتماعات مكثفة مع وزراء ومستشارين لبحث السيناريوهات المحتملة، وأصدرت وزارة الخارجية الإسرائيلية توجيهات لسفراء إسرائيل في مختلف أنحاء العالم للتأهب للدفاع عن سياسات الحكومة والجيش. كما طلبت إسرائيل بشكل مباشر من حكومات الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا ممارسة ضغوط لمنع إصدار مذكرات اعتقال بحق قادة إسرائيليين.

وعلى الرغم من أن إسرائيل غالبًا ما تتجاهل القانون الدولي ولا تحترم القرارات الدولية الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية فيما يتعلق بالحرب على غزة، إلا أن هناك قلقًا إسرائيليًا حقيقيًا، يصل إلى حد الذعر، وذلك للأسباب التالية:

  • أولاً: ستجد إسرائيل نفسها في قفص الاتهام مرة أخرى، بعد مثولها أمام محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب جريمة إبادة جماعية، وستضطر إلى الدفاع عن نفسها وتجهيز فريق كبير من المحامين للرد على أوامر المحكمة الجنائية الدولية. وستتدهور صورة إسرائيل كدولة ديمقراطية أكثر فأكثر، لتتحول إلى دولة يرتكب قادتها جرائم دولية خطيرة.
  • ثانيًا: ستصبح إسرائيل بمثابة سجن لقادتها الذين ستصدر بحقهم مذكرات اعتقال، حيث لن يتمكنوا من السفر إلى أي دولة في العالم إلا تلك التي ترضى باستقبال مجرمي حرب وبشكل غير علني. معظم الدول الأوروبية هي جزء من نظام روما الأساسي، وبالتالي فهي ملزمة بإلقاء القبض على أي شخص تصدر بحقه مذكرة اعتقال. وعلى الرغم من أن معظم الدول الغربية دعمت إسرائيل في حربها على قطاع غزة، إلا أن هناك دولًا حافظت على مبادئها الإنسانية والأخلاقية، مثل النرويج وأيرلندا وإسبانيا.
  • ثالثًا: سيكون هناك تأثير مباشر على الاقتصاد الإسرائيلي، لا سيما في قطاعات الطيران والسياحة والاستثمار في التكنولوجيا المتقدمة وتجارة الأسلحة.

إن حالة الغضب العالمي، وخاصة الاحتجاجات في الجامعات الأمريكية ثم انتقالها إلى الجامعات في أوروبا، لا يمكن تجاهلها بسهولة، ومن المؤكد أنها ستؤثر على صناع القرار في الغرب الذين يشعرون بأن سلوك إسرائيل أصبح يمثل عبئًا حقيقيًا على السياسة العالمية، وعلى الأوضاع الداخلية، وخاصة الانتخابات. ويمكن أن يوفر هذا الغضب بيئة ضاغطة إضافية على المحكمة الجنائية الدولية لإصدار مذكرات اعتقال، انطلاقًا من مسؤولياتها القانونية والحفاظ على سمعتها بعد فترة طويلة من الانتظار. وفي هذا السياق، فإن المحكمة بحاجة إلى فلسطين، وفلسطين بحاجة إلى المحكمة.

إن مشاهد الاحتجاجات العارمة في جميع أنحاء العالم ضد جرائم الإبادة في قطاع غزة تشبه إلى حد بعيد تلك الاحتجاجات التي ساهمت في وقت سابق في إسقاط نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وهي بمثابة مؤشرات قوية على بداية فرض عزلة دولية على إسرائيل.

هل تتهرب إسرائيل من خلال مبدأ التكامل القضائي؟

إن الحديث عن إصدار مذكرات اعتقال بحق قادة وضباط إسرائيليين متهمين بارتكاب جرائم دولية يدفعهم، وبتوجيه من حكومتهم، إلى الاستعانة بمحامين للدفاع عنهم أمام القضاء الدولي من جهة، وتمثيلهم أمام لجان تحقيق داخلية من جهة أخرى.

هذا السلوك الإسرائيلي تكرر في أكثر من جريمة ارتكبها الاحتلال خلال حروب سابقة (صبرا وشاتيلا عام 1982، ثم 2018، 2012، 2014...)، وهو محاولة للتهرب من التحقيق الدولي. ولكن من المهم التأكيد على أن التحقيق الداخلي لا يعني بالضرورة نهاية القضية، أو إلغاء الحاجة إلى تحقيق دولي، خاصة في القضايا التي تتعلق بجرائم جسيمة، مثل الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الحرب، خاصة إذا لم يكن التحقيق الداخلي كافيًا أو فعالًا.

هل تصدر الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق قادة فلسطينيين؟

من المتوقع أن تصدر مذكرات اعتقال بحق طرفي الصراع: حماس وإسرائيل. هذا الافتراض مبني على نمط اعتدت عليه المؤسسات الدولية (التوازن)، حيث لم يصدر أي تقرير دولي إلا وأدان المقاومة الفلسطينية بنفس القدر الذي أدان به إسرائيل، وربما أكثر.

ومن المرجح أن يكون إدراج قادة المقاومة (إن تم) من باب ادعاء التوازن والحيادية. ولكن من الناحية العملية، ستكون الأهمية محدودة للغاية، قياسًا على قرارات تجميد حسابات مالية لبعض قادة المقاومة في السابق (أبو عبيدة على سبيل المثال). وعلى النقيض من ذلك، سيكون لمذكرات الاعتقال بحق قادة إسرائيليين تأثير كبير، وستضيق عليهم حركاتهم وعلاقاتهم بشكل مباشر، وكذلك على مستقبلهم السياسي حاليًا والشخصي بعد التقاعد، حيث يسعى الكثير من الضباط والقادة السياسيين لبناء حياة تجارية جديدة في أوروبا.

خلاصة القول: إصدار مذكرات اعتقال بحق فرد من العالم العربي والإسلامي أو دول العالم الثالث هو أمر متوقع وروتيني، وقيام الدول الغربية بإدراج قيادات على قوائمها هو أمر ليس بمستغرب. ولكن الجديد والمثير هو إصدار مذكرات اعتقال بحق قادة الاحتلال، ومطالبة قادته السياسيين والعسكريين بالمثول أمام المحكمة كمجرمين، فهذا أمر لم يكن ليخطر ببال أحد منا أو منهم. وإذا تحقق ذلك، ولم تنجح الضغوط في ثني المدعي العام، الذي تباطأ كثيرًا، فسيكون ذلك نصرًا عظيمًا.

تخيلوا أن يتم تطويق نتنياهو وقادة الإجرام، وأن يصبحوا غير قادرين على السفر، وأن يُنظر إليهم على أنهم مجرمو حرب، وأن يُنظر إلى الاحتلال على أنه كيان خارج عن الشرعية الدولية التي رعته وأنشأته!

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة